أولاً: السحور:
تعريفه:
مأخوذ من السحر، والسحر: قُبيل الصبح.
قال ابن الملقن: "وكأن السحور سمي باسم زمنه؛ لأنه يفعل في السحر قبيل الفجر، ويدخل وقته بنصف بنصف الليل.
وقال ابن دقيق العيد في ضبط السحور: "بالفتح ما يتسحر به، وبالضم الفعل هذا هو الأشهر.
حكم السحور:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة)).
قال البخاري: "باب بركة السحور من غير إيجاب؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا، ولم يذكروا السحور".
وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ السحور مندوب إليه".
وقال النووي: "فيه الحث على السحور، وأجمع العلماء على استحبابه، وأنه ليس بواجب.
وقال ابن الملقن: "أجمع العلماء على استحباب السحور، وأنّه ليس بواجب، وإنما الأمر به أمر إرشاد.
فضله:
أ- السحور بركة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تسحروا فإن في السحور بركة))
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو الغداء المبارك، يعني السحور)).
وعن عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر، فقال: ((إنها بركة أعطاكم الله إياها، فلا تدعوه)).
قال ابن دقيق العيد: "فيه دليل على استحباب السحور للصائم، وتعليل ذلك بأن فيه بركة، وهذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية، فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمور الدنيوية لقوة البدن على الصوم وتيسيره من غير إجحاف به".
وقال ابن حجر: "والأولى أن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي: اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوِي به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام.
ب ـ السحور من خصائص هذه الأمة:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السحر)).
قال الخطابي: "معنى هذا الكلام: الحث على التسحر، وفيه الإعلام بأنّ هذا الدين يسر لا عسر فيه، وكان أهل الكتاب إذا ناموا بعد الإفطار لم يحل لهم معاودة الأكل والشرب، وعلى مثل ذلك كان الأمر في أول الإسلام، ثم نسخ الله عز وجل ذلك، ورخص في الطعام والشراب إلى وقت الفجر".
وقال القرطبي: "الفصل: الفرق، وأهل الكتاب: اليهود والنصارى، وهذا الحديث، يدل على أنّ السحور من خصائص هذه الأمة ومما خُفِّف به عنهم".
ج- صلاة الله عز وجل وملائكته على المتسحرين:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السحور كله بركة؛ فلا تدعوه ولو أن يجْرع أحدكم جرعةً من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين)).
استحباب تأخيره:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال
تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية).
قال المهلب: "هذا يدل على تأخير السحور؛ ليتقوى به على الصوم، وإنما كان يؤخره إلى الفجر الأول".
وقال النووي: "فيه الحث على تأخير السحور إلى قبيل الفجر".
وقال ابن حجر: "في قوله (قدر خمسين آية) أي متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة ولا سريعة ولا بطيئة".
وقال ابن أبي جمرة: "كان صلى الله عليه وسلم ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فيشق على بعضهم، ولو تسحر من جوف الليل لشق أيضاً على بعضهم ممن يغلب عليه النوم.
أفضل السحور:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم سحور المؤمن التمر)).
قال الطيبـي: "وإنما مدحه في هذا الوقت؛ لأن في نفس السحور بركة، وتخصيصه بالتمر بركة على بركة... ليكون المبدوء به والمنتهى إليه البركة".
الاقتصاد في طعام السحور:
قال ابن دقيق العيد: "وللمتصوفة وأرباب الباطن كلام تشوفوا فيه إلى اعتبار معنى الصوم وحكمته، وهو كسر شهوة البطن والفرج، وقالوا: إن من لم يتغير عليه عادته من مقدار أكله لا يحصل له المقصود من الصوم، وهو كسر الشهوتين، والصواب ـ ـ أن ما زاد في المقدار حتى تُعْدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب، كعادة المترفين في التأنّق في المآكل والمشارب وكثرة الاستعداد بها. وما لا ينتهي إلى ذلك فهو مستحب على وجه الإطلاق، وقد يختلف مراتب هذا الاستحباب باختلاف مقاصد الناس وأحوالهم، واختلاف مقدار ما يستعملون".
إذا سمع النداء والإناء في يده:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)).
قال الخطابي: "قلت: هذا على قوله: ((إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم))، أو يكون معناه: أن يسمع الأذان وهو يشك في الصبح، مثل أن تكون السماء مغيمة فلا يقع له العلم بأذانه أن الفجر قد طلع، لعلمه أن دلائل الفجر معه معدومة، ولو ظهرت للمؤذن لظهرت له أيضاً.
فأما إذا علم انفجار الصبح فلا حاجة به إلى أذان الصارخ؛ لأنه مأمور بأن يمسك عن الطعام والشارب إذا تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".
وقال البيهقي: "وهذا إن صح فهو محمول عند عوام أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر".
وقت الإمساك:
قال تعالى: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ}[البقرة:187].
قال قتادة في تفسير الخيط الأبيض والأسود: "هما علمان وحدّان بيِّنان، فلا يمنعكم أذان مؤذن مراء أو قليل العقل من سحوركم، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل، وقد يرى بياض ما على السحر يقال له: الصبح الكاذب، كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سحوركم، فإن الصبح لا خفاء به: طريقة معترضة في الأفق، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا".
قال الطبري: "اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ}فقال بعضهم: يعني بقوله: {ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ} ضوء النهار، وبقوله: {ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ} سواد الليل... وقال آخرون: الخيط الأبيض هو ضوء الشمس، والخيط الأسود هو سواد الليل ـ ثم قال ـ: وأولى التأويلين بالآية، التأويل الذي رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (({ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ}بياض النهار، و{ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ}سواد الليل)). وهو المعروف من كلام العرب".
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ} عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: ((إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار)).
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (أنزلت: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ ٱلْفَجْرِ}، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعدُ: {مِنَ ٱلْفَجْرِ}، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور، ولا هذا البياض حتى يستطير)).
وعن عائشة رضي الله عنها: أن بلالاً كان يؤذن بليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر)).
قال القاسم: "ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا".
قال ابن عبد البر: "وفي هذا دليل على أنّ السحور لا يكون إلا قبل الفجر؛ لقوله: ((إن بلالاً ينادي بليل)). ثم منعهم من ذلك عند أذان ابن أم مكتوم، وهو إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش فشذ، ولم يعرج على قوله، والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، على هذا إجماع علماء المسلمين، فلا وجه للكلام فيه".
وقال أيضًا: "وقد أجمع العلماء على أن من استيقن الصباح لم يجز له الأكل ولا الشرب بعد ذلك".
قال النووي: "في هذه الأحاديث بيان الفجر الذي يتعلق به الأحكام. وهو الفجر الثاني الصادق".
وقال أيضًا: "هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، قال ابن المنذر: وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار، قال: وبه نقول ... وحكى وأصحابنا عن الأعمش وإسحاق بن راهويه أنهما جوّزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس".
وقال ابن حجر: "من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة لتحريم الأكل على من يريد الصيام، زعماً ممن أحدثه أنه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس".
...يتبع...